كشفت النقاشات التي رافقت موجة الاحتجاجات الأخيرة في قطاع الصحة عن واحدة من أكبر المفارقات في السياسات العمومية بالمغرب: وزارة الصحة كانت في فترات سابقة تقدّم إعانات ومساعدات مالية ولوجستية للمصحات الخاصة. هذه الحقيقة التي كانت غائبة عن الرأي العام، تطرح اليوم أسئلة حارقة حول أولويات الدعم العمومي ومبدأ العدالة في توزيع الموارد.
كيف يُعقل أن تُخصص الدولة جزءاً من ميزانيتها لمؤسسات خاصة تُقدّم خدماتها بمقابل مرتفع، في حين تعاني المستشفيات الجامعية والعمومية من خصاص مهول في التجهيزات والمعدات الأساسية؟ سكانير متعطل هنا، قاعة عمليات بدون أدوات هناك، وأطر طبية تعمل في ظروف أقل ما يقال عنها إنها قاسية… بينما المصحات الخاصة تتباهى بأحدث الأجهزة، وبـ«خدمات خمس نجوم» ممولة جزئياً من المال العام!
إن المفارقة ليست في دعم القطاع الخاص بحد ذاته، فذلك قد يكون مقبولاً إذا كان في إطار شراكة واضحة تضمن المصلحة العامة. لكن أن تُموَّل مؤسسات تجارية من المال العام في وقت يئن فيه المواطن من ضعف الخدمات في المستشفيات العمومية، فذلك عبث سياسي وإداري يحتاج إلى مساءلة جريئة.
الاحتجاجات، على ما فيها من غضب وارتباك، نجحت على الأقل في كشف المستور: أن الدولة، بشكل مباشر أو غير مباشر، ساهمت في ترسيخ منطق الريع الصحي، حيث تستفيد المصحات الخاصة من الدعم، بينما يبقى المواطن البسيط ضحية منظومة مزدوجة: منظومة تدفعه نحو القطاع الخاص، وأخرى تتركه يتألم في ممرات المستشفيات العمومية.
لقد آن الأوان لمراجعة هذا النموذج المختل الذي يكرّس اللاعدالة الصحية، وإعادة الاعتبار للمرفق العمومي كحق أساسي لكل مواطن، لا كخدمة ثانوية لمن لا يملك خياراً آخر.
فالصحة ليست مجالاً للربح، بل مرآة لكرامة الدولة ومواطنيها..

