جاء الظهور الأول لفولوديمير زيلينسكي على شاشات التلفزيون الأوكرانية بوصفه رئيسا للدولة، على هيئة ممثل في مسلسل كوميدي ذيشعبية كبيرة في البلاد. ولكن سرعان ما أصبح التمثيل واقعا. ففي عام 2019، انتخب زيلينسكي رئيسا بالفعل. وهو يقود اليوم بلدا يبلغعدد سكانه 44 مليون، ويواجه غزوا عسكريا روسيا. كان زيلينسكي يؤدي –في مسلسل “خادم الشعب” التلفزيوني– دور مدرس تاريخبسيط يصبح بمحض الصدفة رئيسا للجمهورية، وذلك عقب انتشار شريط مصور يظهره وهو يستخدم ألفاظا نابية ضد الفساد. كانت تلكقصة خيالية استولت على مخيلة الأوكرانيين الذين كانوا قد ضاقوا ذرعا بالسياسة بشكل عام. أصبح “خادم الشعب” اسم الحزب السياسيالذي أسسه، واستخدمه لنشر نهجه السياسي الذي كان يدعو إلى تطهير الحياة السياسية من الفساد وإحلال السلام في المناطق الشرقيةمن البلاد. أما الآن، فقد وضع حشد القوات الروسية على حدود أوكرانيا وقيامها بغزو البلاد، هذا الرئيس غير المتمرس في قلب أزمة دوليةتماثل أخطر الأزمات التي شابت الحرب الباردة بين الغرب والكتلة السوفيتية. كان على الرئيس زيلينسكي البالغ من العمر 44 عاما أن يتخذموقفا حذرا، إذ كان عليه شحذ التأييد لقضية بلاده من جانب ومطالبة الغرب بتجنب إثارة الهلع ومحاولة تهدئة مواطنيه من جانب آخر.
سيرة كوميدية
لم يكن الطريق الذي سلكه زيلينسكي إلى سدة الرئاسة طريقا مألوفا بأي حال. ولد فولوديمير زيلينسكي في بلدة كريفي ريه وسط أوكرانيالأبوين يهوديين، وتخرج من جامعة كييف الوطنية للعلوم الاقتصادية التي حصل منها على شهادة في القانون. ولكنه وجد ضالته فيالكوميديا. وكان زيلينسكي في شبابه يشارك بشكل منتظم في برنامج فكاهي تنافسي كان يبث من خلال التلفزيون الروسي. وفي عام2003، شارك في تأسيس فريق إنتاج تلفزيوني ناجح أطلق عليه اسم كفارتال 95. أنتج هذا الفريق برامج لشبكة 1+1 التلفزيونيةالأوكرانية التي قام مالكها الملياردير إيغور كولومويسكي لاحقا بدعم حملة زيلينسكي للفوز برئاسة الجمهورية. لم تكن السياسة الاهتمامالأول لزيلينسكي لغاية أواسط العقد الثاني من هذا القرن، إذ كان جل اهتمامه منصبا على عمله التلفزيوني والسينمائي (في أفلام مثل“الحب في المدينة الكبيرة” (2009) و“ريفسكي مقابل نابوليون” (2012)).
خادم الشعب
كانت الأحداث المضطربة التي شهدها عام 2014 مسرح صعود زيلينسكي المفاجئ في عالم السياسة، وذلك عقب الإطاحة بالرئيسالأوكراني الموالي لروسيا، فيكتور يانوكوفيتش، بعد “احتجاجات” دامت عدة شهور. بعد ذلك، ضمت روسيا شبه جزيرة القرم إليها وبدأتبتقديم الدعم والإسناد للإنفصاليين في شرقي أوكرانيا في حرب تصاعدت بشكل خطير في الأيام الأخيرة. وبعد عام واحد، أي في أكتوبر/تشرين الأول من عام 2015، عرضت الحلقة الأولى من مسلسل “خادم الشعب” للمرة الأولى عبر شبكة 1+1. أدى زيلينسكي في المسلسلدور فاسيلي غولوبورودكو الذي كان صعوده السريع إلى القمة مشابها لما حققه زيلينسكي في مستقبل الأيام. وفي 2019 تمكن زيلينسكيمن الفوز على الرئيس آنذاك بيترو بوروشينكو، الذي سعى إلى تصوير منافسه على أنه سياسي مبتدئ – رغم أن الناخبين اعتبروا ذلك ميزةمن ميزات زيلينسكي المحمودة. وانتخب زيلينسكي بأغلبية كبيرة بلغت 73,2 في المئة، وأدى اليمين الدستورية رئيسا لأوكرانيا في الـ 20 من مايو/أيار 2019.
جمود في دونباس
حاول زيلينسكي تنفيذ وعده بإنهاء الصراع الدائر في شرقي أوكرانيا، وهو الصراع الذي خلّف 14 ألف قتيلا على الأقل. فقد حاول طريقالتوافق أول الأمر، إذ جرت مفاوضات مع روسيا وتبادل للأسرى ومحاولات لتطبيق بنود اتفاق مينسك للسلام. ولكن هذه المحاولات لم تتابعبشكل جدي.
وكان لقرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين منح سكان المناطق الشرقية المحتلة جوازات سفر روسية أثر تقويض روح التفاؤل والمصالحة. ورغم دخول قرار بوقف إطلاق النار حيز التنفيذ في تموز / يوليو 2020، استمرت الاشتباكات بين الجانبين بشكل متقطع. ومما أثار غضبالرئيس الروسي سعي زيلينسكي الأكثر حزما لضم أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي (الناتو). لم يكن من اليسيرلزيلينسكي أن يصور نفسه كرجل دولة، وكان منتقدوه يشيرون بشكل مستمر إلى افتقاره للخبرة السياسية. ولكنه تميز بالنبرة المطمئنةلخطابه قبيل الاجتياح الروسي، رغم التحذيرات الغربية من قرب وقوعه – إذ كان يشير إلى أن الأمر ليس بالجديد بعد سنوات ثمان منالحرب. وقال آنئذ “يمكن لصبرنا أن يكون له أثر على الاستفزازات، عندما لا نرد عليها ونتصرف بعزة وكرامة.” وحاول لم شمل الأوكرانيينمن خلال الاحتفال بيوم للوحدة الوطنية في الـ 16 من فبراير/شباط، كما قام بعدة زيارات للجنود المرابطين على الخطوط الأمامية. وقالزيلينسكي لبي بي سي، ردا على سؤال عما إذا كان التهديد العسكري الروسي كافيا لثنيه عن سعيه للانضمام إلى حلف شمال الأطلسي،إن الأمر الأهم بالنسبة له كرئيس لأوكرانيا ألا يخسر بلده. وقال “نحن بحاجة إلى ضمانات. فبالنسبة لنا، ليس حلف الأطلسي (ناتو) مجردأربع كلمات، بل يعني ضمانا لأمننا.”
التصدي للأثرياء
كما واجه زيلينسكي صعوبات جمة في الوفاء بوعد آخر من وعوده الانتخابية، وهو وعد التصدي للنفوذ السياسي والاقتصادي الكبير الذييتمتع به كبار الأثرياء الأوكرانيين. وعبّر منتقدوه عن شكوكهم في جديته في ذلك، آخذين بعين الاعتبار علاقاته الحميمة مع إيغوركولومويسكي، الثري الذي دعمت إمبراطوريته الإعلامية حملة زيلينسكي الانتخابية. ولكنه صعّد مع ذلك من تصميمه على تنفيذ برنامجهالخاص بالتخلص من نفوذ كبار الأثرياء.
فقد استهدفت حكومته عددا من كبار الأثرياء الأوكرانيين، بمن فيهم زعيم المعارضة الموالي لروسيا فيكتور ميدفيدتشوك الذي وضعه قيدالإقامة الجبرية بتهم منها الخيانة العظمى – وهي تهم وصفها ميدفيدتشوك بأنها ترقى إلى “قمع سياسي“. ثم سن زيلينسكي قانونا شملتعريفا للأثريا المتنفذين وفرض عليهم قيودا عديدة منها منعهم من تمويل الأحزاب السياسية. ولكن بعضا من منتقديه اعتبروا هذه الإجراءاتالمناوئة للفساد صورية وتجميلية، قائلين إن الغرض منها كسب رضا إدارة بايدن الأمريكية التي يعتبرها زيلينسكي درعا واقيا في مواجهةروسيا.
رد بالمثل
واجه زيلينسكي عدة إحراجات في سعيه للحصول على دعم بايدن. ففي يوليو/تموز 2019، طلب الرئيس الأمريكي – الجمهوري – آنذاكدونالد ترامب من زيلينسكي “خدمة” في مكالمة هاتفية بين الرئيسين. طلب ترامب من زيلينسكي التحقيق في اتهامات بالفساد موجهة إلىبايدن الذي كان آنذاك المرشح الديمقراطي المفضل للفوز بالرئاسة الأمريكية. ووعد ترامب زيلينسكي مقابل ذلك باستضافته في واشنطنوتوفير دعم عسكري لأوكرانيا.
ولكن بعد أن فضح مسرّب تفاصيل المكالمة، اتهم ترامب بممارسة ضغوط بشكل غير قانوني على الرئيس الأوكراني لإجباره على البحث عنمعلومات مضرة بمنافسه السياسي. أصر ترامب على أنه لم يرتكب عملا خاطئا، بينما نفى زيلينسكي أن يكون قد وُعِد بأي شيء. وجهالديمقراطيون إذ ذاك اتهامات رسمية لترامب، ولكن إجراءات عزله لم تكتمل عقب محاكمة ذات صبغة سياسية في الكونغرس.
صندوق باندورا
وكان لزيلينسكي نصيبه من الفضائح أيضا. ففي أكتوبر/تشرين الأول 2021، ورد اسمه في وثائق باندورا – التسريب الكبير لوثائقفضحت الثروات المخفية العائدة لكثير من أغنياء العالم وقادته. وكشفت الوثائق بأن زيلينسكي والمقربين منه يهيمنون على شبكة من الشركاتالمؤسسة في ملاذات ضريبية. ولكن زيلينسكي قال إن الوثائق لم تأت بجديد، ونفى بأن يكون هو أو أي من أفراد شركته – شركة كفارتال95 – من الضالعين في عمليات غسيل أموال.
من الموقع الاخباري: بي بي سي العربية